يقول الإمام السالمي - رحمه الله- في كتابه "مشارق أنوار العقول":
"أركانها ندم مع استغفار والعزم والرجوع بانكسار
(قوله: أركانها)الخ: أي أن أركان التوبة الشرعية أربعة، كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه- أنه قال: التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والإضمار على أن لا يعود. وبعضهم جعل هذه الأشياء ما عدا الرجوع عن الذنب شروطا للتوبة، لا أركانا لها، وجعل بعضهم الخلاف في كونها أركانا أو شروطا لفظيا، وبين وجه الخلاف بأن من اعتبر معنى التوبة في اللغة جعل تلك الأشياء شروطا، ومن لم ينظر إلى معناها اللغوي جعلها أركانا".
الركن الأول من أركان التوبة الذي هو "الندم": "فإن من لم يندم على معصيته فليس هو بتائب، وهذا هو الركن الأعظم، ولذلك قيل: (التوبة الندم)، فمن كان مسرورا بما وقع فيه من المعصية فإن معصيته باقية ولو ادعى أنه تاب". قال الإمام السالمي في المشارق معرفا الندم ومؤكدا فيه على ضرورة الإخلاص في التوبة:"وهو غم يصيب الإنسان ويتمنى أن ما وقع منه لم يقع، وإنما يعتد به إن كان على ما فاته من رعاية حق الله -تعالى- ووقوعه في الذنب حياء من الله وأسفا على عدم رعاية حقه، فلو ندم لحظ دنيوي كعار أو ضياع مال، أو تعب بدن، أو يكون مقتوله ولده لم يعتبر كما ذكره بعضهم. وذكر أبو نصر القشيري عن والده الإمام أبي القاسم أن من شرط التوبة أن يذكر ما مضى من الزلة، ويندم عليه، فلو أسلف ذنبا ونسيه فتوبته من ذنوبه على الجملة، وعزمه على أن لا يعود على ذنب على ما يكون توبة مما نسيه، وما دام ناسيا لا يكون مطالبا بالتوبة عما نسيه. اهـ المراد منه. وقال القاضي أبو بكر: إن لم يتذكر تفصيل الذنب فليقل: إن كان لي ذنب لم أعلمه فإني تائب إلى الله -تعالى-، ولعله إنما قال هذا فيما إذا علم لنفسه ذنوبا لكنه لا يتذكرها، فأما إذا لم يعلم لنفسه ذنبا فالندم على ما لم يكن محال، وإن علم له ذنبا لكنه لم يتعين له في التذكر فيمكن أن يندم على ما ارتكب من المخالفة على الجملة، ثم العزم على أن لا يعود إلى المخالفة أصلا. اهـ". أما الركن الثاني فهو "الإقلاع عن المعصية": "فإن من لم يقلع عنها واستمر عليها، لو استغفر الله آلاف المرات هو غير تائب، وإنما يخادع نفسه، في حين يظن أنه يخادع ربه -سبحانه وتعالى-". قال الإمام السالمي: "(قوله: والرجوع بانكسار) أي ومن أركان التوبة الإقلاع عن الذنب بتذلل وانكسار نفس، وذلك كما إذا كان ملتبسا بالذنب أو مصرا عليه فإنه يجب عليه ترك ما تلبس به حالا، وإن لم يتركه فلا توبة له". أما الركن الثالث فهو "عقد العزم على عدم العودة إلى المعصية": "وذلك بأن ينوي في قرارة نفسه أنه لا يعود إلى معصيته تلك التي وقع فيها، ولا إلى غيرها من معاصي الله، كما أن الألبان لا تعود إلى الضروع بعد انفصالها عنها". قال الإمام السالمي:"(قوله: والعزم) أي على أن لا يعود في المستقبل إليه أو إلى مثله،وهذا إنما يتصور اشتراطه فيمن يتمكن من مثل الذي قدمه،أما من جب بعد الزنا، أو قطع لسانه بعد نحو القذف،فالشرط في حقه عزمه على الترك لو عادت إليه قدرته على الذنب،وبهذا علم أن توبة العاجز عن العود صحيحة،ولم يخالف فيها إلا الجبائي قال:لأنه ملجأ إلى الترك، وردوا عليه بما تقرر في نحو المجبوب". أما الركن الرابع فهو "الاستغفار": "وهو أن يطلب من الله -تبارك وتعالى- المغفرة؛ وذلك لأن طلبه من ربه -سبحانه وتعالى- أن يغفر خطيئته اعتراف منه بهذه الخطيئة التي ارتكبها، واعتراف بما لله -تعالى- من حق عليه، واعتراف بافتقاره إلى ربه مع غنى الله عنه". وذكر الإمام السالمي في "مشارق أنوار العقول" أن بعض العلماء قد ذكروا شروطا غير هذه، وذكر أن هذه الشروط راجعة إلى الشروط السابقة التي ذكرها، ومن بين هذه الشروط "رد المظالم إلى أهلها"، قال معلقا على ذلك: "(ومنها) ما اشترطه المعتزلة من رد المظالم، أقول: وهذا الشرط -أيضا- داخل تحت الرجوع؛ فإنه يجب -كما تقدم- أن يكون الرجوع عن المعصية لكونها معصية، فيستلزم أن لا يبقى مظلمة يقدر التائب على ردها، فإن لم يفعل كان مصرا، ورد المظالم معتبر في صحة التوبة عند أصحابنا -أيضا-، فلا عبرة بمن لم يعتبره". ولقد قال فضيلة الشيخ عبد الله المعمري في خطبته عن التوبة مؤكدا على أهمية "رد المظالم": " وليتخلص من جميع التبعات، فإذا كانت التبعات متعلقة بشيء من حقوق العباد فعليه أن يؤدي حقوق العباد جميعها؛ ذلك لأن التوبة من حقوق العباد لا تكون إلا برد المظالم إلى أهلها، سواء كان ذلك متعلقا بالأنفس أو متعلقا بالأعراض أو متعلقا بالأموال، لا بد من إعادة الحقوق إلى أصحابها، وإلا فلا توبة منها مهما جرت دموع ماء صاحبها أنهارا، ومهما قام الليل وصام النهار إلا أنه متعلق بذمته حق من حقوق العباد فلا يغفر ذلك الحق إلا برده إلى صاحبه، أو بإبراء صاحبه من فاعله الجاني".
فعلى هذا تتبين لنا حقيقة التوبة،"فالتوبة إلى الله -عز وجل- ليست مجرد شقشقة باللسان، ليست مجرد دعوى، ليست مجرد كلمات تلوكها الألسنة.إن التوبة إلى الله هي رجوع إلى الله، هي خلع للباس الجفاء، وبسط لبساط الوفاء، إن التوبة إلى الله ذوبان الحشا لما سلف من الخطا، إن التوبة إلى الله ندم وهم وغم يملأ القلب وحسرة على التفريط في جنب الله، حتى تسود هذه الدنيا بظلمتها في عين هذا العاصي، بسبب إقدامه على معصية الله، وبسبب اللوم وسياط التأنيب والهم التي تلسع بها ظهره لإقدامه على معصية ربه وسيده -سبحانه وتعالى-، بعد ما أنعم عليه النعم، وبسط له من واسع الكرم، وأوجده من العدم، وتفضل عليه بآلائه الظاهرة والباطنة، ثم يقابل تلك النعمة بالكفران لا بالشكران! فحقيق به أن يندم على فعلته، وأن يأسف على نفسه على ما فرط في جنب الله. وهذا الهم والغم يجعل الدنيا مظلمة مكفهرة في وجه هذا العاصي؛ لأنه تيقن من نفسه الوقوع في المعصية، وهو على شك من أمره: هل تقبل توبته عند الله -تعالى- أم لا؟ فهو على خطر عظيم" بتصرف. أما توبة اللسان من تبييت نية العودة إلى الذنب فهي توبة غير صحيحة. قال أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي الحنفي في كتابه "تنبيه الغافلين":"وذكر عن رابعة -رضي الله عنها- أنها كانت تقول: إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير. يعني إذا استغفر باللسان ونيته أن يعود إلى الذنب، فإن توبته توبة الكذابين، وهذا لا يكون توبة".
علاج الإصرار على المعصية
لقد تناول العلماء هذه القضية بالتفصيل، وسأذكر ذلك -بإذن الله- مختصرا، ومن أراد التوسع أكثر فليرجع إلى الكتب والمراجع التي تناولت هذه القضية، كالجزء الثاني من كتاب قناطر الخيرات، وككتاب مختصر منهاج القاصدين الذي سأذكر الآن بعضا مما ذكره بشيء من التصرف، يقول: "اعلم أنه لا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء، ولا يبطل الشيء إلا بضده، وسبب الإصرار الغفلة والشهوة، ولا تضاد الغفلة إلا بالعلم، ولا تضاد الشهوة إلا بالصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة. والغفلة رأس الخطايا، فلا دواء إذا للتوبة إلا معجون بعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر. والأطباء لهذا المرض هم العلماء؛ لأنه مرض القلوب، ومرض القلوب أكثر من مرض الأبدان.
ونشير إلى الأعمال النافعة لعلاج مرض الإصرار، وهي أربعة أنواع:
الأول: أن يذكر ما في القرآن العزيز من الآيات المخوفة للمذنبين، وما ورد في الأخبار والآثار من ذلك، ويمزج ذلك بمدح التائبين.
النوع الثاني: معرفة وتذكر حكايات الصلحاء السابقين والسلف الصالح والتفكر فيها وفيما أصابهم من المصائب بسبب الذنوب.
النوع الثالث: أن يعلم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب، فهو بسبب جناياته، فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة يخاف عقوبة الدنيا أكثر لفرط جهله. والذنوب قد يتعجل في الدنيا شؤمها كما تبين ذلك سابقا.
النوع الرابع: ذكر ما ورد من العقوبات في آحاد الذنوب، كشرب الخمر، والزنى، والقتل، والكبر، والحسد، والغيبة.
وهذا الذي ذكرنا هو علاج الغفلة، فيبقى علاج الشهوة، وطريق علاجها الصبر، فإن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره، وإنما يحمله على ذلك شدة شهوته، أو غفلته من مضرته، فلا بد من مرارة الصبر، وكذلك يعالج الشهوة في المعاصي، كالشاب مثلا إذا غلبته الشهوة، فصار لا يقدر على حفظ عينه وقلبه وجوارحه في السعي وراء الشهوة، فينبغي أن يستحضر المخوفات التي جاءت في كتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا اشتد خوفه تباعد عن الأسباب المهيجة للشهوة. فلا بد إذا من الصبر، ومن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء، ولا يصبر أحد إلا عن خوف، ولا يخاف إلا عن علم، ولا يعلم إلا عن بصيرة، فأول الأمر حضور مجالس الذكر -أي المحاضرات الدينية-، والاستماع بقلب مجرد عن الشواغل، ثم التفكر فيما قيل، فينبعث الخوف، ويسهل الصبر، وتتيسر الدواعي لطلب العلاج، وتوفيق الحق - سبحانه- من وراء ذلك كله".